كل مولود جاء إلى هذه الدنيا لهدف طولت حياته أو قصرت ، ثم أن كل معجزة طبية تحدث لحكمة قد لا نراها إذا كانت نظرتنا مقتصرة على زاوية معينة ، ولكنها تبدو لنا مع اكتمال الصورة ووضوح الرؤية.
(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً، وأنكم إلينا لا ترجعون).
إليكم هذه المعجزة الطبية:
كان شعور الحماس يطغى على الأطباء وهم يترقبون مشاركتهم في هذه المعجزة الطبية.. بعدما جهزوا كل ما يلزم بالإتفاق مع العائلة.
كل شئ كان يشير إلى أنهم سيحققون اختراقاً علميًا له تبعات مبهرة، وكل ما عليهم الآن أن ينتظروا ولادة الطفل.
دخلت الأم إلى غرفة عمليات الولادة القيصرية تكز على أسنانها وتشد على أصابعها من التوتر.. وهي تدعو ألا يأتي الطفل الجديد مصابًا بنفس المرض الجيني الذي أصاب أخاه الأكبر وأدى إلى وفاته في عمر السبعة أشهر.
قال لها الأطباء أن هناك احتمالاً بنسبة خمسين بالمئة أن يأتي الطفل مصابًا لأنه ذكر.. فهذا المرض الجيني محمول على الصبغي x ، مما يعني أنه يصيب الذكور.
فضلت الأم أن تنظر إلى الجانب المشرق من الأمر. هناك أيضاً احتمال خمسين بالمئة ألا يكون الطفل مصابًا بعوز المناعة المشترك الشديد severe combined immunodeficiency (SCID)..
حيث لا يكون عند المصاب به الخلايا التائية والبائية T and B cells ، الضرورية لمواجهة الانتانات البكتيرية والفطرية والفيروسية.. ويكون الطفل منذ ولادته فاقدًا للمناعة ، يودي أي التهاب بسيط بحياته.. لذلك كان المولودون بهذا المرض الجيني يموتون بعد أشهر قليلة من ولادتهم، مثلما حدث مع الأخ الأكبر.
كانت العائلة قد قررت انجاب طفل آخر وتجهزت للاحتمال الأسوأ
بعدما أعطاهم الأطباء أملاً بأنه يمكن إجراء عملية نقل نخاع العظم Bone marrow transplant للطفل من أخته الكبرى.. في حال تمكنوا من الإبقاء عليه حياً حتى الوصول إلى عمر مناسب لإجراء العملية .
قالوا لهم أن العملية كانت ممكنة للأخ الذي مات لو عاش بضعة أشهر إضافية.. وهكذا كانت الفكرة تصميم حاضنة خاصة بالطفل مغلقة على شكل فقاعة تمنع دخول الميكروبات ويتم تعقيم كل ما يدخلها من رضاعات وحفاضات.. ويبقى الطفل بها إلى أن يصبح عمره مناسب لإجراء العملية، وبعدها يعيش الطفل حياة طبيعية.
ولد الطفل دافيد في الحادي والعشرين من أيلول عام 1971 ، ومباشرة نُقل إلى الفقاعة دون أن تتمكن أمه من لمسه.. وتبين بعد إجراء التحاليل أنه بالفعل مصاب بالمرض الجيني SCID.
وهكذا مضى الأطباء في التجهيز للعملية ، قبل أن تصدمهم مفاجأة لم تكن في الحسبان . لم تكن أنسجة الأخت مطابقة لدافيد ، وبالتالي لم يكن بالإمكان إجراء العملية .
تحولت المعجزة الطبية المرتقبة إلى كابوس
حيث لم يعد هناك حل أمام الطفل الرضيع سوى البقاء في الفقاعة لأجل غير مسمى.. فأي مواجهة مع العالم الخارجي وميكروباته ستعجل وفاته.
هكذا بقيت الفقاعة التي كبر حجمها مع تقدم عمر الطفل.. والذي بقي في المشفى لسنوات قبل أن يقرر أهله نقل الفقاعة إلى المنزل. حاول الأهل قدر الإمكان أن يعيش الطفل حياة طبيعية من وراء الفقاعة ، فوضعوا له تلفزيون يتفرج عليه.
كما أحضروا مدرسين يعلمونه أكاديمياً، بل وحتى جهزوا الفقاعة من الداخل بالألعاب المعقمة.
لكن الطفل الذي ازداد وعيه واكتشف أنه مختلف عن أخته ومن حوله، حاول الخروج من الفقاعة عبر ثقبها بسيرنج تُرك بإهمال بجانب الفقاعة.. مما دفع الأطباء إلى الشرح لابن الرابعة من العمر له عن ماهية الميكروبات و أنه لو خرج من الفقاعة سيموت .
بعد سنتين تقريباً صممت ناسا بدلة خاصة للطفل لكي يتمكن من الخروج من المنزل ، ولكنه لم يستخدمها سوى مرات معدودة بسبب حالة الرعب التي سيطرت عليه من العدوى.
إلى متى سيبقى الطفل في الفقاعة وقد بلغ من العمر اثني عشر عاماً ؟
جاءت أبحاث مشجعة عن عمليات ناجحة لنقل نقي العظام من متبرعين غير متطابقين، فقررت العائلة إجراء العملية لدافيد ونقل نقي العظم من أخته، بعدما عجزوا عن ايجاد متبرع متطابق.
وبعدما لاحظت الأم حالة الاكتئاب التي يعاني منها الولد وهو يراقب الأطفال يلعبون في الخارج .
كانت نتائج العملية في البداية ناجحة ، ففرح الجميع ، قبل ان تتدهور حالة دافيد ويعاني من حرارة ونزوفات داخلية وهو بداخل الفقاعة.
نُقل دافيد إلى المشفى حيث قبلته أمه ولمست جلده للمرة الأولى والأخيرة . مات دافيد في عام 1984 بعدما طمأنوه أنه سيكون مع أحبابه في الحياة الآخرة.
أظهر التشريح أن خلايا نقي العظم الخاصة بالأخت كانت تحتوي على فيروس ابشتين بار EBV ، وأن الفيروس استغل العوز المناعي وتسبب له بسرطان لمفوما.
كان هذا أول دليل أن الفيروسات قادرة على إحداث السرطان . أدت حياة هذا الطفل إلى فهم أكبر لعلاقة الجهاز المناعي والكائنات الإمراضية ، وتمت تسمية مدرسة ابتدائية باسمه.
بفضل حالة دافيد تقدم العلم حالياً وظهرت علاجات ناجحة للرضع المولودين بهذا المرض الجيني القاتل.
اقرأ أيضاً:معلومات حول دواء ون آسيا(alfacalcidol)
د. سمر الزير